تأملات قلبيةمن وحي القلم

حجارة الطريق

لا تقراءها إن كُنت ممن يقُضلون الحياة على الشاطيء

كانا يسيران معاً، يد بيد وقلب يسند قلب، لم يتواعدا أو يقررا اللقاء، بل التقيا فقط، في وقت … في زمن … في ظروف خُلقت وخطوات سارت على طريق مُعّد مسبقًا، لكنه غير مرصوف، فيه من الصعوبات والعثرات ما يكفي لعرقلة خطواتهما.

لكنه ساهم بولادة علاقة فريدة، لا تُشبه قريناتها. لا المنطق أسسها ولا التوافق ولا الانسجام، فكل منهما ينتمي لعالم مختلف، ولديه من المخزون الثقافي والفكري ما يجعله غريب عن الآخر، لكن الألم كان هو القاسم المشترك في المخزون الذي جمعا فيه الماضي مع بدايات الحاضر، بالإضافة لرصيد من الخير وضعه أحدهم في حساب الآخر قبل سنين مضت،

الألم هو الذي صقل شخصيتهما خلال سنين من المعاناة، خاضا فيها غمار الكرب والشقاء، شقاء أمطرته الظروف وشقاء اختاراه مُرغمين، فلا أحد يختار الشقاء عنوانًا لمسيره في رحلة الحياة.

وكات التناغم والتنافر شارات مُتناثرة على أطراف الطريق، كثيرة ومتناثرة لدرجة أنك لا تستطيع تمييز أو عنونة الموقف، بل على العكس شكَّلا مزيجًا غامضًا، يجمع بين المُتناقضات حينًا والتطرف حين آخر.

ومع ذلك أكملا واستمرا يتعثران في أوقات مُعينة، ويُعانيان من سوء الفهم والتقدير بعضهما لبعض، لكن ما يجمعهما منعهما من الافتراق، فلا طريق غير هذا ولا مسير بعيد عنه سيقودهما لنهاية مرحله عنوانها صحراء قاحلة وسط سراب واحات العالم.

وقبل النهايات تتوالد السجالات والجدالات، حيث القدرة على الصمود تهتز برياح خُماسية تحجب الرؤية، ويرى الإنسان ما ترسمه رغبة قلبه، وتتوق له شهوة نفسه. حينها يفقد القدرة على المقاومة، ويتوه عن الطريق عندما يفلتُ يد صديق الرحلة، ويصبح وحيدًا أسير أفكاره وتقديراته.

هذا ما دار في ذهني قبل أن أستيقظ وأنا أجد نفسي مُقيداً بأيد أخطبوط من الأجهزة الطبية حولي، والتي كانت تصرخ حينها وتخبو أصواتها أحيان أخرى. لم يكن سؤالي أين أنا مُهمًّا بقدر سؤالي أين هو؟، لكن حبالي الصوتية عجزت عن إصدار موسيقاها التي كانت سابقًا تصدح في الفضاء الفسيح حولنا. فساعدتها نظرة عينيّ وأعانتها على قول ما عجزت عن قوله، لترى الإجابة دون أن تسمعها.

وتعود بي الذاكرة المُنهكة لذاك الوقت حينما التقت نظراتنا المتحديّة لتثبت صحة اختيارها للطريق الذي كان سيقودنا لنهاية الصحراء ويخرجنا للرحب، لم تكن صلواتي كافية لردعه، ولا معلوماتي المكتنزة استطاعت أن تساعده في رسم خارطة طريق النهاية، أراد الراحة فقط ولم يكن يعرف أن هذه الراحة كانت سراب في تلك الصحراء، سراب قاده لسراب وأسلمه لآخر آخر حتى تاه وأضل الطريق.

أغمضت عيني وأنا أحاول جاهدًا أن ألتقط إشارات من مخزون الذاكرة، لأستطيع استعادة الحديث الأخير قبل أن تحجبه عني رمال البعد والفرقة.

  • لقد خدعتني، لم يكن هذا هو الطريق الذي أردتُه
  • لا يا صديقي، أنا لم أخدعك، لقد أخبرتك مرارًا وتكرارًا أنه هو الطريق لكنك كنت تصٌم أذنيك عن سماع ما لا ترغبه نفسك.
  • لكن سمعت وعلمت أن في الطريق راحة وسعة وفرح.
  • لقد أخبرتك بقول سيدي: اُدْخُلُوا مِنَ الْبَاب الضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْه، مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!
  • أنا لا أريد الكرب، تعبت من هذه الصحراء ولم أجد الباب حتى الآن، أريد الوصول والراحة، يكفيني ما عانيته طوال سنوات حياتي، وأريد حقي بأن أعيش في هذه المرحلة من عمري براحة وسلام.
  • سنصل يا صديقي، اصمد قليلًا وسنحتفل بوصولنا معًا، وسيفيض الفرح والسلام من قلوبنا، فرح لا يشبه أفراح العالم وراحة ليست كراحة سراب هذه الواحات.
  • لقد سرت معك دربًا ليست بقصيرة، ولم أعد أرغب بهذا، لست مُستعدًا لهذا العناء.
  • العناء هو الذي ستكون فيه إن لم تستمر وتصل للنهاية؟ لقد أخبرتك كما أخبرني السيد منذ البداية، لماذا لم تستعد؟ لماذا لم تجلس وتحسم أمورك وتحسب كلفة الطريق؟

ألم أخبرك عن ضرورة الجلوس لحساب النفقة قبل الشروع بالمسير. فالرجل الذي يريد أن يبني برجًا، يجلس أولاً ويحسب النفقة.  إنه لن يباشر بذلك إذا رأى أنه لا يملك ما يلزم لكماله.  وإلاّ فسيضطر إلى التوقف عن العمل بعد أن يكون قد وضع الأساس.  فيبتدئ عندئذٍ الناظرون يهزؤون به قائلين: هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يكمّل.  وهكذا هو الحال بالنسبة لك، إذ عليك أن تحسب النفقة أولاً، وتقرّر هل أنت حقًّا على استعداد للتخلي عن حياتك بالكليّة لأجله.  وإلاّ فقد تكون البداية بشكل بريق من المجد، لكن سرعان ما يخبو هذا البريق؛ وفي هذه الحال ستكون محطّ سخرية الناظرين لأنك ابتدأت حسنًا لكنك أنهيت بشكل معيب.

  • لا أريد ولا أستطيع.
  • سيمنحك المعونة في وقتها، اصمد يا صديقي، وركّز على الهدف، هدفنا هو الوصول وقضاء اللانهاية معه ، حينها َسَيَمْسَحُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِنا، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، حتى وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى ستكون قَدْ مَضَتْ.
  • لم أعد أرى أن هذا هو الطريق الذي سيوصلنا للهدف
  • لماذا؟
  • ألا يمكن أن يكون أقل صعوبة وأقل تكلفة؟ ألا أستطيع أن أستمتع وأعيش وأفرح وأنا أسير في هذا الطريق؟
  • أقولها وأنا متردد لأني لا أريد خسارتك مرتين، إن أجبتك نعم فأنا فعلًا أخدعك لأنك ستصل لمحطات في الطريق لن تستطيع أن تعبرها وستظل عالقًا فيها وتتأخر عن الركب وتفقد صحبة رفاق الرحلة.

وإن أجبتك لا سأفقدك تمامًا لأن وهم حصولك على هذه الاحتياجات المشروعة بطريقتك أو حسب توقعاتك سيعمي عينيك عن استقبالها من مصدرها الأساسي، وسيمنع عنك رؤيتها تأتيك منه كغيث لطيف في أيام شديدة الحر والقسوة.

  • وكأن إجاباتك باتت من الصعوبة والتعقيد لدرجة لم أعد افهم المغزى منها.
  • سأبدأ من البدايات، ففي البدايات سحر لا يخبو بريقه، عندما تبعت السيد، هل تذكر ماذا كان شرطه الوحيد؟ أو دعني أقولها بطريقة أخرى: هل أخبرك بمتطلبات الرحلة؟
  • نعم أذكر كلمته عندما قالها للجميع، لكنه نظر في عيني نظرة اخترقت كل دفاعاتي وحواجز فكري المسبق المتصلب، وكأنه يتحدى رجولتي الفكرية وخبرتي التي باتت مُحركي في الحياة، حين قال: إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي.
  • نعم، وحينما قال هذا، كان يريد أن يعلمنا ويحذرنا من خطورة التهور والسير دون وعي كامل وإدراك مننا:

يُنكر نفسه تعني كما فهمتها نظرياً وأختبرها بشكل عملي في كل يوم: نحن ننكر ذواتنا عندما نستسلم للسيد ونقرر أن نطيع إرادته، إن نُكران الذات يعني العيش كشخص محوره الآخر.

وأنا أعلم تمامًا أن الطبيعة البشرية تريد أن تنغمس في النفس، لا أن تنكر النفس.

الموت عن النفس أمر فظيع دائمًا، وإذا كنا نتوقع أن تكون تجربة ممتعة أو معتدلة، فغالبًا ما سنُصاب بخيبة أمل. الموت عن النفس هو العيش بتكريس كامل للسيد. أما عن حمل الصليب……

  • أعلم جيداً معنى هذا، فقد حملت في حياتي صلبان كثيرة من المرض، والفقدان، ومواجهة الموت، والخيبة، والخيانة، والوحدة……..
  • اعذرني صديقي، وكأني أرى أنك لم تدرك عمق وأهمية فكرة الصليب هذه: فحمل الصليب

لا يشير إلى بعض الانزعاج أو الصعوبات في الحياة، لكنه ينطوي على طريق من الآلام لخدمة السيد وليست نتائج الخطية التي أزالها في جسده المكسور لأجلنا. وكأن الصورة هنا تعكس إنسان، مُدان بالفعل، مُلزم بحمل صليبه إلى مكان الإعدام، فالصليب يؤدي دائماً إلى الموت عليه. فلا أحد يحمل الصليب للمتعة. وإذا حمل أحدهم صَلِيبَهُ، فلن يعود أبدًا، إنها رحلة في اتجاه واحد.

  • ما تقوله يعجز عقلي عن إدراكه كتطبيق عملي، كيف سأنكر ذاتي وكيف سأحمل صليبي؟ كيف؟
  • سأقولها بشكل واضح كما تعلمتها من السيد، وكما تدربت أن أقبلها وأفعلها في حياتي: أن أتنازل عن كل حقوقي وأترك كل رغباتي من أجل خدمة السيد، أن أعيش كما عاش، فقد عاش ميتاً عن الذات، عاش وهو يعرف أنه سيحمل صليبه قريبًا جدًا.
  • أنا لا أستطيع قبول هذا الكلام، أو في الحقيقة كلامك سبب لي اضطراب وخوف، لقد عرفت السيد من فترة طويلة وتلقنت معرفته وفكره من سنوات، وعلمت أن الحياة معه محبة، فرح، سلام، أمان، تعويضات……
  • صحيح، هو عنده وفيه كل هذه الأشياء الرائعة، لكنك لن تسعى إليها لأنك لن تدركها بحواسك البشرية وبمنطق العالم، ستدركها بقلبك بعد أن تنكر نفسك وتتخلى عن حقوقك والتمركز حول ذاتك ومتطلباتك.
  • لا أستطيع، وإن كان هذا هو الطريق فلن أستطيع المتابعة ….. سأعود

   (قالها بمرارة وحزن، وذكرني حينها بالشاب الغني الذي جاء إلى السيد وقال له أريد أن أتبعك، وعندما أوضح له السيد صعوبة اتباعه، مضى حزيناً)

  • لماذا يا صديقي؟ لماذا؟ نحن نسير معاً منذ فترة ليست بقصيرة، ما الذي جرى أخبرني؟
  • لا أريد رحلة عنوانها الألم فقط، فمن أبسط حقوقي أن أعيش حياة تتزين بالأفراح، من حقي أن أطلب الراحة بعد سنين من التعب والكد، من حقي أن أتمنى أن أعيش بالأمان في سلام ورضا.
  • من حقك طبعاً. لكن المعادلة الصعبة الفهم على كل من عاشوا على الشاطئ في علاقتهم بالسيد، هي من وقفت عائقاً أمامك.
  • ماهي هذه المعادلة الصعبة الفهم؟
  • عندما تنكر نفسك تربحها. وعندما تربح نفسك تهلكها

عندما تتنازل عن حقك بالراحة تجد كل الحرية والراحة

عندما تتنازل عن حقك في الرخاء ستتعيش في ملء الرخاء والرضا

عندما تتنازل عن العيش بالأمان وتخوض مغامرة الحياة مع السيد ستعيش في ملء السلام والأمان.

  • مممممم، لن أستطيع……
  • لقد أوضح السيد أن من يحمل الصليب هو فقط من يصلح أن يكون له تلميذًا، قد نقلل أحيانًا من مطالب السيد عندما نعطي الانطباع للآخرين بأن قبول الحياة مع السيد هو مجرد الإيمان ببعض الحقائق بدلًا من تسليم الحياة بالكامل له.

كما قد قال أحدهم: “قد تتبع السيد وأنت لست تلميذًا؛ أو تتبع معسكره وأنت لست جنديًا”.

  • ماذا إذن؟
  • أنت ستقرر، هل سنستمر بالمسير معاً، هل ستكون تلميذاً حسب متطلبات السيد؟
  • لا أدري، هناك مشاعر كثيرة تتجاذبني الآن، أريد لكني لا أستطيع.
  • ستستطيع صدقني، ستجد المعونة في وقتها، ستأتيك الامدادات في الرحلة، فقط ثق وقرر وابدأ وأكمل. انظر إلى من سبقوك، تشجع بالذين يسيرون معك، لم تعد النهاية بعيدة، أرجوك …..

أدار وجهه حزينًا، وأشاح بنظره ومضى، حتى لم يقل لي كلمة وداع واحدة،

ملأ الحزن قلبي المفطور لأجله، وصرخت بغضب: لماذا لا يستطيع رؤية ما أراه، لماذا لم يملك مخزونًا من الثقة والصمود ليجعله يستمر، لماذا التراجع والعودة والبقاء على هامش الدعوة، لماذا لم يملك بصيص نور في قلبه يساعده على الاستمرار؟ لماذا ؟

وأسمع السيد يقول معزياً: “لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ”.

ويدخل المتشح بالبياض غرفتي ليبشرني بانتهاء مدة إقامتي هنا، فبعد التحرر من أطراف العنكبوت المقيدة لجسدي، سأكون جاهزًا لمتابعة المسير.

خرجت مُحملًا بكل الإمدادات للمرحلة القادمة من رحلتي للأبدية، ومشحونًا بقوة من الإيمان تلامس اليقين، أن ما بقي من الرحلة قليل جدًا وملاقاة الحبيب أقرب مما أظن، وقبل أن أنطلق أحسست وكأن الصديق ليس ببعيد عني، لكن شوق قلبي للقائه ومتابعة مسيرتي معه جعل دموعي تنهمر من عيني مُرغمًا لتسقط على حجارة الطريق وتتجمد تاركة آثارها، وكانت آخر أمنياتي أن تكون نصبًا يراه الصديق ويدرك أن المحبة أقوى من اللقاء.

10″وسمعت صوتا عظيما قائلا في السماء:«الان صار خلاص الهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه، لانه قد طرح المشتكي على اخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم امام الهنا نهارا وليلا. 11 وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت“.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى